تمهيد :
هذه التدوينة تختص بالشأن الكنسي القبطي الأرثوذكسي، أعتذر لك إن كنت غير مهتماً بهذا الشأن ويمكنك أن تطلع على المواضيع الأخرى المتنوعة بالمدونة.

ما تحتويه هذه التدوينة من نقد لسياسات وتصرفات قيادات بالكنيسة ليس هجوماً على الإيمان المسيحي أو العقيدة المسيحية ومن يستخدم كلامي في غير موضعه للتشهير بالعقيدة المسيحية يعرض نفسه للمسائلة القانونية ويتحمل هو وحده مسئولية تأويلاته.

فرح العمدة (أو فرح ابن العمدة أو بنته)؛ هو ذلك المصطلح الدارج الذي يدل على تلك الحفلة التي يدعو فيها العمدة اهل قريته؛ ليشاركوه الاحتفال بشيء ما؛ فيهتم الجميع بالحضور لنيل استحسان العمدة، ورضاه، ولهذا يستعد الجميع لهذا اليوم بتجهيز كلمات المديح والاطراء للعمدة؛ فكلما كانت كلمات المدح أقوى وأشد كلما كان الرضا اعلى بالتأكيد، هذا غير الهدايا الثمينة بالطبع فرغم أن العمدة في غير حاجة لهدايا، إلا أن الهدية لها معنى وقيمة وتحمل الرغبة في نيل الرضا والقبول، ولابد طبعاً من التنافس في نوع الهدايا وشدة كلمات المديح والاعجاب، هذا التنافس الذي يخلق من العمدة كائناً اسطورياً قادراً على فعل أي شيء، وقد يغيره هو نفسه ليصدق ما يدعيه مدّاحوه ومداهنوه.

هذا التشبيه ينطبق على الحالة التي اناقشها اليوم وهي الاحتفالات التي تقام للقيادات الكنسية في المناسبات المختلفة (عيد ميلاد / رهبنة / رسامة .. الخ) ، ففي الجيل الأخير وبما هو واضح من خلل روحي فادح اصبحت هذه الاحتفالات ظاهرة، وأصبحت أقرب إلى فكرة فرح العمدة بكل ما تحمله من تفاصيل، الكثير والكثير من المدح والتنافس في انتقاء الكلمات والألفاظ حتى يكاد صاحب المناسبة يطير ويضيء من ذاته في مكانه، لابد أن تتنوع فقرات المديح من ذكر انجازات لإلقاء أشعار أو ترانيم .. ففي تلك اللحظات يظهر مخزون الإبداع الأصيل ترقباً للجائزة الكبرى (الرضا والقبول) وما يتتبعها من نعم وعطايا.

هذه الظاهرة لا تختلف سوى في درجتها بدءاً من أصغر احتفال يقام لأصغر كاهن في كنيسة حتى اكبر احتفال للبابا في الكاتدرائية، وفي كل الاحوال روحيات صفر، كلام عن المسيح صفر، صلاة بعمق صفر؛ إنما مدح وتمجيد وتبجيل لصاحب الاحتفال فهذا يملأ المكان ويفيض حتى الاختناق.

ومن الواجب عند رصد هذه الظاهرة من ابراز المثل الاكبر والأشهر وهو الاحتفال بتجليس الراحل البابا شنودة الذي كان يقام سنوياً بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية، مع التأكيد على أن هذه الظاهرة بعينها تتكرر على المستويات الأصغر من أساقفة وكهنة مع بعض الاكسسوارات المهمة من اعلانات مدفوعة بالجرائد المختلفة (والقبطية خاصة) من طراز “كوهين ينعي ابنه ويصلح ساعات”، واللافتات المضيئة الضخمة، ولا بأس من بعض المزايدات فهذا كله يصب في النهاية في مصلحة رأس المال .. نعم كوهين لا ينعي ابنه إلا لكونه يريد أن يخبرك أنه يصلح ساعات.

نبدأ بالفقرة الأولى : قصيدة “تساؤلات” للأنبا بيشوي

وفيها يقول:

هل أنت أسطورة؟!
هل أنت أعجوبة؟!
هل أنت أنشودة؟!
يا حبيبنا يا بابا شنودة !!

قارن بما يلي:

أنت القلب الكبير
أنت نعمة وإحسان
بنعمتك تختال علينا
وأنت مرآة حضارتنا

ليس تهكماً على أشخاص بل على المديح وأسلوبه الذي عفا عليه الزمن وبال (أي أصبح بالياً). حقيقة لم اتعجب من رد فعل الشعب الحاضر بالكاتدرائية، فهذا هو المناسب تماما لهذا الجو من كيل المديح، ويبدو أن هذا المطلوب إظهاره للمباهاة بالأعداد، أو للإلهاء عن مشاركة الأقباط بالحياة السياسية من خلال تحويل انتباههم للتباهي برموزهم الدينية والاحتفاء بهم. بعيدا عما يفترض أن يقوم به هؤلاء الرموز من تركيز على الروحيات والصلاة ..

ننتقل للفقرة التالية : قصيدة “سألت نفسي” للأنبا موسى

دعك من التحسين والتجويد في كيل كلمات المديح، سأركز هنا على جملة عابرة قالها وهو يحكي عن “الاختيار الالهي” حيث ذكر أنه لما علم أن القرعة وقعت على الأنبا شنودة قال “ربنا بيحب الكنيسة” وهي جملة ذات حدين، فالمفترض أن ربنا بيحب الكنيسة في أي وقت، فبالتالي الجملة لا محل لها من الاعراب إلا أن تكون نوعاً من المبالغة في مديح لا يحتاج البابا له! أو المعنى الأسوأ وهو التشكيك في المرشحين الآخرين للبابوية وقتها (الأنبا صموئيل والقمص تيموثاوس المقاري)، وهو بذلك يشارك في نشر مفهوم مضلل عن أن الكنيسة تقوم على أشخاص بعينهم فالكنيسة هي جماعة المؤمنين ورأسها السيد المسيح، فلا تقف على أشخاص بعينهم، وهذا ما وصلنا له بظاهرة “فرح العمدة” حيث يتم تكريس مفاهيم خاظئة كثيرة تحت مسمى المديح والاعجاب.

أخطر هذه المفاهيم ما يظهر في الفقرة التالية ترنيمة “قلب الكنيسة الحاني” :

 وفيها يتم تشبيه البابا كالقلب للكنيسة وهو تشبيه غريب وكأن كل مشاعر الكنيسة تتركز في شخص البابا! وكأن الكنيسة لا تعيش إلا به؛ فهو القلب! العجيب أن أحداً لا يراجع هذه الكلمات ولا هذه المعاني، وموقفها من الإيمان المسيحي، وكأن الهدف الأهم هو تعظيم وتكبير وتمجيد صورة البابا (كرمز) لجماعة الاقباط .. بدلا من تمجيد اسم المسيح ونشر جوهر الايمان به  كرأس لجماعة المؤمنين وهو الهدف الأسمى والأوحد لكل ما تعمله الكنيسة (كما يفترض).

والثابت في الايمان المسيحي ان الكنيسة هي جماعة المؤمنين وهي جسد المسيح وهو رأسها “وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ (المسيح)، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ.” (أفسس 1: 22، 23) ؛ إلا أن تكرار وصف البابا بمثل هذه الصفات (الحصرية) للسيد المسيح لم يكن يمثل أي مشكلة في كل الأوساط المحيطة بالبابا، لأنه يبدو أن تمجيد الشخص صار أهم من تمجيد الله.

 من الفقرات الترفيهية هي فقرة “تمثال الحمامة” .. هل تذكرون الوصف التفصيلي لتحركات الحمامة بين مكتب البابا وعتبة الهيكل .. تلك الحمامة التي اعتبرها الأنبا موسى دليلا على “الاختيار الالهي” .. لقد تم تخليد ذكرى هذه الحمامة كما يلي :

نأتي لفقرة الهدايا حيث يتم تقديم الهدايا للبابا في كل احتفال من كل الأساقفة والاديرة .. الخ .. إلا أنه في هذا الاحتفال كانت الهدية فوق المعتادة:

لم يكن تقديم تمثالا بهذا الشكل وليد هذا اليوم، وهو ما أثار ضيق البابا فيما يبدو، بل أن هناك مقدمات كثيرة سبقت هذا اليوم أوصلتنا لمرحلة تقديم تمثال لشخص في حياته، وهذا الشخص يفترض أنه قدوة في الاتضاع وانكار الذات، وأنه راهب زاهد في متاع الدنيا، فلم هذا التوريط بتقديم هدية من هذا النوع؟ انه التطور الطبيعي لظاهرة فرح العمدة فالتنافس في الهدايا سيصل حتما لمستويات لا يمكن تجاوزها تم تجاوزها بهذه الهدية الفخمة. الأنبا بيشوي لم يجد مشكلة في التمثال إلا انه التماثيل حرام في الكنيسة وبالتالي يمكن وضعه في المقر البابوي (وكأن التمثال لم يتم تقديمه داخل كنيسة اصلاً!)

 أما أخطر الفقرات على الاطلاق فكانت تلك المحاولة اللطيفة من الأنبا أثناسيوس للتصدي للشائعات التي انتشرت عن ظهور رؤيا لأحدهم فيها أن البابا سيتنيح قريباً .. تسبب ذلك وقتها في جدل كبير عن من يخلف البابا وشائعات أخرى حول خلافات الاساقفة .. الأنبا أثناسيوس ظهرت له رؤيا تحل كل هذه الخلافات والألغاز وتحقق السعادة للجميع بالتنبؤ للبابا بالبقاء حتى نهاية العالم !

ما سبق ليس تصيداً للاخطاء وليس استهدافاً لأشخاص بل استهدافاً لسطحية فكر وخلل روحي تسبب في ظاهرة “فرح العمدة” هذه .. فالكل يسعى لارضاء الكبير بكيل المديح ومعسول الكلام حيناً، وبالوقوف ضد من يغضب عليهم حيناً آخر؛ ولعل هذا يفسر عدم توزيع كتب الأب متى المسكين في كل الكنائس تقريباً ، والمغالاة في الهجوم على فكره دون مناقشته موضوعيا، ظنا ممن يفعل ذلك أنه يرضي البابا المختلف فكريا مع الاب متى المسكين ؛ هذا فعله الجميع تقريبا إلا استثناءات نادرة، فالمشاركة في فرح العمدة لم تكن مجرد اغاني وأفراح بل أيضا بالارهاب الفكري ومنع الكتب .. وهذا الأسوأ على الاطلاق ؛ فالمسألة لا تخص الاشخاص بل تخص منهج ضعيف ساد الاوساط الكنسية اهتم بارضاء القيادات على حساب ارضاء الله، واهتم بتجميل الظاهر على حساب تنقية الجوهر، واهتم بالبعد عن التعمق والدراسة في سبيل ترديد افكار محفوظة ليكون قائلها (في الأمان).. هذا كله جعل الكنيسة في النهاية صورة ممسوخة من مجتمع سياسي فاسد، بدلا من أن تكون مكاناً لتمجيد اسم الله القدوس.

لا تقدسوا أشخاص زائلون

يتجملون ويتلونون ويساومون

قدسوا من مات لأجل مبادئه

اقرأ أيضاً:

تدوينات أخرى عن الكنيسة المصرية:
أربعون عاماً في المتاهة
الحركات القبطية المدنية المعاصرة
أنا الرب .. “شفيق”
الكنيسة بين الإصلاح والرجعية

أضف تعليق